Info
AR اللغة AR
Side Menu
المناظرة في التراث الإسلامي (٢)
September 26, 2022 0

المناظرة في التراث الإسلامي (٢)

الجزء الثاني

تقدم الحديث عن مفهوم المناظرة عند علماء هذا الفن، وربما يتبادر إلى الذهن أن المناظرة مرادفة للجدل؛ فكثيراً ما يأتيان في سياق واحد، أو متقارب، لذلك كان لزاماً التفريق بينهما.

الجدل في اللغة: اللَّدَدُ فـي الـخُصومة والقدرةُ علـيها..([1]) كما أنه مقابلة الـحجة بالـحجة([2]) ، ويرى الراغب الأصفهاني أن الجدل هو المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة([3])
أما في الاصطلاح فإن تعريف الجدل لايبعدُ كثيراً عن المعنى اللغوي، حيث عرّفه الباجي بأنه: تردد الكلام بين اثنين قَصدُ كل واحد منهما تصحيح قوله، وإبطال قول صاحبه([4])

ونلاحظ بأن هذا التعريف قريب من تعريف المناظرة، إلا أنه يخلو من قيد إظهار الحق أو طلب الصواب وهذا قيد مهم في التفريق بين المناظرة والجدل، بل يمنح المناظرة بُعداً أخلاقياً تمتاز به عن الجدل.

ويعرّف الكفوي، الجدل بأنه دفع المرء خصمَه عن فساد قوله بحجة أو شبهة، وهو لا يكون إلا بمنازعة غيره([5])
فالجدل قد يكون بالشبهة التي هي عبارة عن تلبيس بالباطل بصورة الحق، كما أنه يكون بغرض المنازعة والمخاصمةوبهذا تكون المجادلة هي المنازعة في المسألة العلمية لإلزام الخصم سواء كان كلامه في نفسه فاسد أو لا([6])

 أما الإمام الجويني فقد عرّف الجدل بأنه: “إظهار المتنازعين مقتضى نظرتهما على التدافع والتنافي بالعبارة، أو بما يقوم مقامها من الإشارة والدلالة“([7]وبذلك فإن الإمام الجويني يرى أن الجدل والمناظرة بمعنى واحد وأنهما مترادفان، حيث يرى بأنهلا فرق بين المناظرة والجدال، والمجادلة في عرف العلماء بالأصول والفروع، وإن فُرّق بين الجدل والمناظرة على طريقة اللغة، وذلك لأن الجدل في اللغة مشتق من غير ما اشتق منه النظر“([8]).

وربما يعود سبب عدم تفريق الجويني، أنه متقدم، فلم يدرك فن المناظرة بعد أن استقر في قرون متأخرة، فصار يُفرّق فيها بين الجدل والمناظرة، كما أن قول الجوينيفي عرف العلماء بالأصول والفروعدليل على أنه يتحدث عن الجدل والمناظرة في المسائل الفقهية والأصولية، والتي اعتنى بها علم الجدل قبل أن تستقر علم المناظرة ويستقل.

ويمكن تلخيص الفرق بين الجدل والمناظرة في أمرين:

الأولأن المناظرة تكون لإظهار الصواب وطلب الحق، ويكون حال المتناظرين في طلب الحق كناشد ضالة لا يفرّق بـين أن تظهر الضالة على يده أو على يد من يعاونه“([9])، ففي المناظرة هدف سام، ومقصد عالٍ وهو معرفة الحق، الخضوع له، بعكس الجدل، فإن الغرض منه إلزام الخصم وإفحامه، والغلبة والظهور، والمخاصمة والمحاججة، يقول الإمام محمد المرعشي: “فغرض المناظر إظهار الصواب، وغرض المجادل حفظ المدعى ودفع الخصم وإلزامه، فقواعد الجدل لعلها حيلٌ ومغالطاتٌ لا ينبغي أن يقابَل بها إلا الخصم المتعنت“([10])

الثانيتقدم أن المناظرة مصدر النظر، والنظر قد تكون مأخوذ من النظير، وبالتالي فإن المناظرة هي التي تكون بين النظيرين، أما الجدل فلا يراعي هذا الاعتبار.([11]الذي يؤكد عليه علماء المناظرة، حيث يرى بعضهم أن : الواجب على العالم أن لا يُناظر جاهلاً ولا لجوجاً؛ فإنه يجعل المناظرة ذريعة إلى التعلم بغير شكر([12]). ومن هنا فلا تَصح المناظرة ويظهر الحق بين المتناظرين حتى يكونا متقاربين أو متساويين في مرتبة واحدة من الدين والفهم والعقل والإنصاف وإلا فهو مراء ومكابرة.

ويجدر التنبيه على الفرق بين الجدل كمفهوم عام، وكعلم قديم يبحث في طرق إبرام ونقض الحجج أياً كانت، وبين علم الجدل في سياق العلوم الإسلامية، والذي يرتبط بالجدل في مسائل أصول التشريع، وهو العلم الذي يُعرف به “كيفية تقرير الحجج الشرعية، ودفع الشُّبه وقادح الأدلة، وترتيب النكت الخلافية[13]

مسائل علم المناظرة

أما مسائل علم المناظرة فهي كثيرة ودقيقة، حيث تبدأ في تحديد ما يصح أن تجري فيه المناظرة([14])، والأمور التي لا يصح أن تكون محلاً للمناظرة، مثل المفرد والمركب الناقص، والمركب التام الإنشائي، بينما تجري المناظرة فقط في:

  1. المركب التام الخبري، وهو ما يعرف بالقضية.
  2. التعريفات
  3. التقسيمات

بعد تقرير ذلك تُقسّم مباحث هذا الفن إلى تصورات وتصديقات، ويتمُّ الحديث في كل قسم على قواعد المناظرة التي تحكمه، فعند الحديث عن التصورات، يبدؤون بالتقسيمات([15])، والتقسيم هو من الموضوعات التي تجري فيها المناظرة، ويُقصد بالتقسيم تجزئة الشيء، ويضعون شروطا لصحة التقسيم مثل:

 

25. pic1
  1. أن يكون التقسيم حاصراً، بمعنى أن يكون جامعاً لجميع أجزاء المُقسَّم، ومانعاً من دخول أقسام آخرى.
  2. أن يكون كل قسم مبايناً لجميع ما عداه من الأقسام.

ثم تُذكر الكيفية التي تجري فيها المناظرة في التقسيم، وماهي مواطن الاعتراض في التقسيم، مثل:

  1. عدم الحصر، بمعنى أن الأقسام غير حاصرة لجميع جزئيات المقسم.
  2. أن القسم ليس أخص مطلقا من المُقسَّم، بل أعم منه.
  3. أن الأقسام غير متباينة، بمعنى تكون متشابهة فيما بينها.


وكل
 هذه اعتراضات يمكن أن تَرِد على التقسيمات، كما أن هناك ردوداً على هذه الاعتراضات يمكن أن يلجأ إليها المناظر صاحب الدعوى.

وبمثل هذه المنهجية تُعالج أيضاً مسألة المناظرة في التعريفات، فيضعون شروطاً لصحة التعريف، وهي:

  1. أن يكون جامعاً ومانعاً.
  2. أن يكون التعريف أجلى من المُعرّف.
  3. أن لا يستلزم التعريف شيئاً من المحال كالدور والتسلسل.


ومن خلال هذه الشروط تُعرف كيفية الاعتراض على التعريف، وذلك بعدم تحققها في التعريف
.

كما أن هناك شروطاً تحسينية للتعريف، بمعنى أن التعريف يصح بدونها، لكنها تزيد التعريفات وضوحاً وجلاءً، مثل:

  1. أن يخلو من الأغاليط اللغوية.
  2. أن لا يشتمل التعريف على مجاز أو مشترك بدون قرينة.
  3. أن لا يحتوي التعريف على ألفاظ غريبة.

بعد ذلك يتم الحديث بإسهاب عن طرق المناظرة في التصديقات وهي القضايا، وهناك ثلاث طرق للمناظرة حولها:

الطريق الأولالمنع

وهو “طلب الدليل على ما يحتاج إلى استدلال، وينقسم:

القسم الأول: المنع المجرد من السند

القسم الثاني: المنع المقترن بالسند([16]).

الطريق الثانيالمعارضة

وهي أيضاً أحد طرق المناظرة في التصديقات، ويعرفونها بأنهاإبطال السائل[17] ما ادعاه المعلل[18] واستدل عليه، بإثباته نقيض هذا المدعى، أو ما يساوي نقيضه، أو الأخص من نقيضه.

الطريق الثالثالنقض

وهو في اصطلاح علماء هذا الفن: “ادعاء السائل بطلان دليل المعلل، مع استدلاله على دعوى البطلان، إما بتخلف الدليل عن المدلول بسبب جريانه على مدعى آخر غير هذا المدعى، أو بسبب استلزامه المحال، أو نحو ذلك“([19])

ويذكرون بأن النقض لا بد له من شاهد، والشاهد هو “الدليل على صحة النقض“([20]). 

ثم تُختم مسائل علم المناظرة بالحديث عن الأخلاقيات والآداب التي يجب على طرفي المناظرة التحلي بها، مثلإخلاص النية وعدم رفع الصوت، وغيرها من آداب التي ربما نعرضها لاحقاً بشكل موسّع.

بقلم: د. علي السند

المراجع

([1] ) ابن منظور، لسان العرب، (11/105)

([2] السابق، نفس الصفحة

([3] ) الأصفهاني، معجم مفردات ألفاظ القرآن الكريم

([4] ) الباجي، المنهاج في ترتيب الحجاج، أبي الوليد الباجي، ص11

([5] ) الكفوي، الكليات، ص353

([6] ) الكفوي، الكليات، ص849

([7] ) الجويني، الكافية في الجدل، الإمام ، 39

([8] ) السابق: ص19

([9] ) الغزالي، إحياء علوم الدين (1/40)

([10] ) محمد المرعشي، تقرير القوانين (مخطوط)

([11] ) انظر: مسعود بن موسى فلوسي، الجدل عند الأصوليين بين النظرية والتطبيق، ص154

([12] ) ابن عبد البر، جامع بيان العلم وفضله، ص213

[13] تصنيف العلوم بين الطوسي والبيضاوي، د.عباس محمد سلمان ص٩٧

([14] ) انظر آداب البحث والمناظرة، محمد الأمين الشنقيطي،ص4

([15] ) محمد المرعشي، الرسالة الولدية،  ص15

([16] ) السند هو ما يذكره المانع وهو يعتقد أنه يستلزم نقيض الدعوى التي يوجه إليها المنع

[17] السائل في اصطلاح علماء المناظرة هو المعترض، الذي يسعى إلى نقض دعوى المدعي أو المستدل

[18] المعلل هو المدعي أو صاحب الدعوى والمستدل عليها.

([19] ) محمد محيي الدين عبد الحميد، آداب البحث والمناظرة،  ص94

([20] )  عبد الرشيد الجنغوري، الرشيدية، شرح على الرسالة الشريفية، للسيد الشريف الجرجاني،ص91

كلمات مفتاحية:

اترك تعليقا